
اليقظه
في الصباح الباكر، التليفون رن (ترررررن تررررررن). كان حسن مستغرقا في النوم. استيقظ علي صوت التليفون الموزعج وصار يتحسس الطاولة فلا يجد شيئاً، ثم أتذكر أنه اعتاد وضع هاتفه المنبه بعيدا من السرير كي لا يتسنى لي إقفاله والعودة إلى النوم. الأمر الواقع المتجسد بصوت المنبه الفظ والملحاح ينتهي بفرض نفسه علي. أنهض وأحدق في الحائط المواجه لسريره. لا أذكر بما حلمتُ (على افتراض أن ليلته تخللتها أحلام)، لكنه أتذكر الأفكار والخواطر التي كانت تعتمل في لحظة نومه كما لو أن ما من مسافة زمنية تفصلها عن لحظة استيقاظه. الواقع اليومي يتتابع أمام عينه كما لو أنه كان يعني شخصاً آخر، وسرعان ما وجد نفسه في المترو بكامل هندامه. منذ لحظة استيقاظه، صمت عميق يتملكه ويرهب حواسه. ليس صمتاً عادياً بل هو صمت مخنوق، كأن دفقاً هائلاً من المشاعر الفياضة والمتناقضة يتزاحم على باب روحه بحيث يسده تماماً. أسند وجهه بالشباك. الأشكال العابرة تشغل انتباهه، لكن في كل مرة يتوقف المترو ينتابه قلق غريب. بين وقت وآخر تتراخى وتتداخل حدود الأشياء في عينه ثم يتداركه الإنتباه ويعيد كل شيء إلى مكانه. أخرج من جيبه الورقة التي طبعت عليها العنوان ليتأكد من أنه لم يفوت المحطة. الأمر الذي أثار ارتيابه هو أن المسافة بدت له أكثر بكثير مما احتسبتها. فكر في أن واضع الخريطة على الأنترنت قد يكون سمح لنفسه بتقليص الجهة الشرقية للمدينة (حيث يقع العنوان)، منطلقاً من اعتبار أن كل المنشآت المهمة هي في الجهة الغربية. المسافة بين المباني تتباعد أكثر فأكثر حتى يخيل إلي أننا صرنا في الضاحية. أخرج عند المحطة المنتظرة. أشعة الشمس تدفئ وجهي المتجلد، مما يحدث شعوراً مهدئاً. كم هي حنونة شمس الشتاء، قال لنفسه: أمشي في شارع أنيق. يبدو لي شارعاً للسكن، وأستغرب أن يحتوي على مكاتب أو عيادات. أطرق الباب الخشبي. كل شيء حوله هادئ وساكن، لكنه هدوء متوجس.
إمرأة خمسينية بملامح أليفة تظهر عند الباب. "أنت متأخر بعض الشيء"، تقول بابتسامة معاتبة. من دون أن تنتظر منه رداً، تردف بسرعة: "لا تقلق، هذا طبيعي في المرة الأولى". تقوده عبر ردهة مفروشة بسجادة عجمية، ثم تطلب منه الإنتظار في غرفة تشبه إلى حد بعيد غرف الجلوس في المنازل العائلية. لعبة أطفال مرمية في الزاوية تجعله أتأكد من انطباعه. هو منزله الخاص بلا شك، والسكرتيرة قد تكون زوجته. أفكر هنا أن قدمه لم تطأ منزلاً عائلياً منذ فترة طويلة.
يفتح باب آخر في الغرفة ويظهر عنده رجل قصير وأصلع، ذو ملامح أبوية تعكرها نظرات أكاديمية تبدو مفتعلة. يدعوه إلى الدخول ثم يطلب منه الجلوس على كنبة في مواجهة مكتبه. يسأله: "ألا تريد أن تلقي التحية على صديقتك؟"، ثم يشير إلى كنبة أخرى خالية بجانب الكنبة التي أجلس عليها. أعتقد أنها مزحة سمجة فأفتعل ضحكة محرجة. ينظر إلي باستغراب ثم يحيل نظره بسرعة على الكنبة الخالية ويأخذ بهز رأسه كما لو كان يصغي إلى شخص وهمي. ما هذا؟ فيلم لوودي ألن؟، أقولها بصوت متردد وما زلت أرغب باعتبار الأمر مقلبا، لكن لا يبدو أن الطبيب سمع عبارتي. يستمر بالإصغاء إلى الكنبة الخالية وبين وقت وآخر يوجه إلي نظرة عتاب. يرفع نظراته فجأة كما لو أن الشخص الوهمي هب واقفا، ثم يقف بدوره. يطلب من الشخص الوهمي أن يهدأ وتظهر على وجهه تعابير النقزة وردود الفعل الدفاعية التي تظهر على وجهه عندما تبدأ صديقتي صراخها الهستيري. فجأة تتطاير الأوراق عن المكتب في كل مكان كما لو أن شبحا بعثرها، ثم ينفتح الباب وحده وينغلق بقوة كما لو أن شخصا خفيا خرج وصفق الباب وراءه.
يجلس ولبضع لحظات يحاول استرداد أنفاسه. "المسكينة على وشك الإنهيار، ألا تخجل من نفسك؟ ماذا تبغي من وراء هذه المسرحية؟. أستغرب الإنفعال غير المهني في نبرته، ثم أتذكر أنني لست مريضاً، تالياً ليس لديه التزام تجاهي. طالما كان لدي ميل للنظر في عيون الآخرين كما لو كنت أنظر إلى مرآة وتبني نظرتهم إلي. يكفي أن يوجه إلي أحد إتهاما صادرا عن اقتناع فعله لديه ليس عن محض افتراء حتى يتملكه شعور غير منطقي بالذنب. ذلك يحصل بشكل غريزي وآلي على نحو يمكن مقارنته بعدوى البهجة أو الحزن التي تصيبنا عند رؤية أشخاص يضحكون أو يبكون. عمدت مبكراً إلى معالجة هذه المشكلة من خلال إتقان تقنيات الصدق التي يلجأ إليها في العادة الممثلون والكاذبون. مع أنه لا يكذب إلا نادراً، عندما يضطر للكذب يفعل ذلك بمهارة مدهشة ينافس فيها النصابين، ذلك أنه في كل مرة يضطر فيها للدفاع عن نفسه ضد اتهام مجحف يكون علي أن يتعمد إلى إخفاء شعوره الفطري بالذنب وتمثيل الصدق أو البراءة. يفكر أن تقنيات الصدق يمكن أن لا تنطلي على الطبيب النفسي بحكم اختصاصه، بل قد تؤدي إلى نتيجة معاكسة للمرتجى منها فيعتقد أن لديه ما يخفيه. ثم ربما لا حاجة لاستعمال تلك التقنيات معه، فهو، بحكم اختصاصه أيضا، يجب أن يكون قادراً على التمييز بين الذنب الأصيل لدى المذنب والعرضي لدى البريء. أرخي نظراته في عينيه محاولا تفادي أي تدخل أو جهد من الممكن أن يعكر عفوية صدقي، وآملاً أن يفرز الصدق الجوهري في نظرته ونبرته من شعوره العارض بالذنب. المشكلة أنه فطر على التمثيل إلى درجة أنه نسي كيف يتصرف في حالته الفطرية. لذا عدم بذل أي جهد ومقاومة فطرته التمثيلية، صار أمراً مجهداً للغاية له، مما يجعل صوته يبدو مضطرباً حين يشرح له حقيقة المسألة. حين ينتهي، يحملق في لنصف دقيقة كما لو كان ينتظر منيه شيئاً، ثم يخبره أنه لا يصدقه وأنه لا توجد حالة كهذه، إلا أن مجرد ادعائه أمراً كهذا يدل على أنه شخص مضطرب للغاية ويحتاج إلى علاج، ثم يأخذ يشرح له مقتنعاً ما يعتقد أنه الوضع الحالي.
بينما يتكلم، أتأمل وجهه الصغير الذي يبرز مثل رأس السلحفاة من بين رأسه الأصلع ورقبته المنفوخة، وتبدو له تعابيره وانفعالاته مفتعلة وكاريكاتورية كما لو كان شخصية كارتونية. هنا يتذكر أن مخيلتيه الخبيثة كانت تلجأ في طفولته إلى هذا النوع من المقارنات التحقيرية للإنتقام من أهله ومعلمه حينما يقرعونه، فأشعر بالخجل وأشيح بنظره. أستاء من نفسه لسماحه له بإرباكه إلى هذا الحد وأفكر أن طابعه الأبوي قد يكون هو ما يجعله أشعر كما لو كان يقرأ أفكاري. ينتهي من كلامه الذي ما عدت أسمعه في الدقائق الأخيرة. يقول له إنه ليس لديه ما يضيفه ثم أنهض وأمد يده ليصافحه بابتسامة مهذبة وواثقة. لوهلة، يبدو في عينيه بعض التساؤل كأنه لم يتوقع رد فعله أو فقد زمام المبادرة، إلا أنه ينهض بعد ذلك، بالإبتسامة المهذبة والواثقة عينها، وتلتقي كفانا فوق المكتب. تمنى له يوماً سعيداً ثم أستدير خارجاً. أعبر الردهة التي تبدو له دافئة بسجادتها المزخرفة بنقوش حمراء وبنية وأشياء صغيرة وشخصية مبعثرة على طرفيها قد تكون وضعت عمداً لإشعار المرضى بالأمان. راي يده على الحائط البيج. أمر بقرب ردهة أخرى تفضي إلى باب مغلق، ويخطر له، لا أعرف لماذا، أنها غرفة أطفاله. في اللحظة التي أجتاز فيها العتبة، يلفح وجهه الهواء البارد وتنتابنه رغبة غير مفهومة بالعودة أدراجي. بدلاً من التوجه نحو المحطة أمشي في الشارع على غير هدى. كل شيء مختلط ومخضوض في ذهني، انتباه كله مشدود (أو مقذوف) نحو الخارج كما لو كان أستنجد بثباته النسبي هرباً من عاصفتي الداخلية. وجوه المارة تتتابع بسرعة أمام عينَي إلى أن تنصهر لتبدو له وجهاً واحداً لا يكف عن التحول بشكل بهلواني . أنه يهرول تقريباً في هذه اللحظة. تتطرف تعبيرات الوجه المتحول وتزداد حدة في حين يقترب منه شيئاً فشيئاً إلى حد أنه يكاد يطبق على وجهه. تنتابه دوخة وتدور الوجوه حوله بينما أتهاوى على أحد مقاعد الرصيف. في حين ألتقط أنفاسه، تبتعد عنه وتتراجع تعابيرها إلى نظرات مستفسرة ببرود وهي تعبر من أمامه.
هنا وللمرة الأولى منذ خروجه من عيادة الطبيب، حاول استيعاب ما حدث. أبدأ من الجزء الصلب من ذاكرته حيث كانت الأمور لا تزال تحت السيطرة، وصل بسرعة إلى اللحظة التي يظهر فيها الطبيب عند الباب ثم أقترب بحذر وعلى رؤوس أصابعه من ذلك الجزء المنهار، من تلك اللحظات الحرجة والمكثفة التي تهاوى فيها كل شيء تحت قدمه. حاول أن يركز انتباهه ما أمكن على سطح الأحداث متجنباً الخوض فيها. يستعيد المرة تلو الأخرى تلك الثواني التي تطايرت فيها الأوراق عن المكتب ثم فتح الباب وصفق وحده إلى أن تبدو لي تلك اللقطات المستعادة، من كثرة ما اجتررتها، أكثر واقعيةً وحضوراً حسياً من المشهد الشارعي الماثل أمامي. لم يعد لديه أدنى شك الآن، بلحظة واحدة المستحيل واللامرئي اقتحم حياته وانتزع السجادة من تحت يقينه اليومي. أتهجى كلمة "مستحيل" بتأن فيشعره ذلك بالرهبة. لكنه مهلاً، هذا لا معنى له، المستحيل لا وجود له، بل هو مستحيل ببساطة. ما حصل، خرج بحصوله من دائرة الإستحالة، أي أنه لم يكن مستحيلاً فعلاً وإلا الما أمكن حصوله. الامر إذاً، ليس مستحيلاً ومعناه أنه عاجز عن رؤية صديقته، وأن حواسه تتجاهل وجودها لسبب ما. ترن الجملة في ذهنه بنبرة مفتعلة، آخذ بتكرارها بنبرات وصيغ أخرى بينما تسرح مخيلته في خواطر عبثية. أستعيد ملامح من حياته مع صديقته، لقطات عابرة عنا ونحن نتنزه في الحديقة، نشاهد التلفاز، نمارس الجنس إلخ. الصور ذاتها تتكرر على مدار العلاقة مع فارق أن ذكرياتي عن البداية تبدو واضحة ومكثفة ثم تبهت تدريجياً إلى أن تختفي عندما يصل إلى الأسابيع الأخيرة. هنا يتذكر أن ممارسة الجنس في الفترة الأخيرة كانت صارت معها أشبه بالإستمناء. كانت تصرخ بوجهه وتقول: إنني صرت أتصرف كما لو كانت غير مرئية. لم ياخذ كلامها على محمل الجد إلا الآن. تبا، كيف فاته أمر كهذا؟ من دون أن يكون التفسير كافياً، لا شك أن طبيعته الساهية لعبت دوراً في ذلك، فأنه طالما كان بالكاد يلاحظ الأمور التي اعتاد عليها أو ينتبه لما يطرأ عليها من تغيرات. كان يعتبر وجودها مسلماً به وأفترضه بدلاً من معاينته الأمر لا ينطبق على المستجدات فهي تستغرق وقتاً حتى يهضمها انتباهي. مثلاً، حين قررت البلدية إزالة برج إيفل لإقامة مركز تجاري مكانه، لم يلاحظ ذلك إلا بعد شهور مع أنه كان يمر من هناك كل يوم في طريقه إلى الجامعة. لا عجب أن الطبيب لم يصدقه، الجميع على دراية بعارض الهلوسة الذي يتخيل فيه المرء رؤية ما هو غير موجود، وسماعه، لكن لم يسبق له أن سمع عن عارض يعجز فيه المرء عن رؤية ما هو موجود، وسماعه. أمر كهذا لا يمكن أن يحصل فجأة، عليه أن يصدر من الداخل وهو يحتاج وقتاً وتراكماً طويلاً لينضج في مطبخه النفسي. يجب الاعتراف أنه طالما كان لديه مشكلة مع النهايات. لا يذكر كيف انتهت أي من علاقاته النسائية السابقة وحين يفكر في الأمر عن قرب أتبين أن أياً منها لم تنته بالمعنى الدقيق للكلمة بل كان هناك انتقال تدريجي وبطيء من حالة العلاقة إلى حالة اللاعلاقة. في الواقع، لم يجرؤ يوماً على إنهاء أي علاقة، كان يفضل أن يرمي الأمر على عاتق الزمن وينتظر أن تنتهي العلاقة من تلقاء نفسها. الأمر، ولا بد، على علاقة وثيقة بخوفي المرضي من المواجهة وشعوره الدائم واللامبرر بالذنب، بأن لا شيء حقيقياً في شأنه، وبأنه يلعب دوراً وينتحل مكاناً ليس له حتى عندما يكون وحده. هناك أيضاً علاقته الفصامية بالآخرين. طالما أعطي الإنطباع بأنه شديد التركيز على ذاته وقلما أعرتهم انتباهاً، لكن هذا لا يعني أنه كان لامبالياً حيالهم: في الواقع، كان غافلاً عنهم لأنه كان يراقب نفسه طوال الوقت، لكن بعيونهم. لم يستطع يوماً أن ينظر إلى نفسه إلا بعيونهم ومن وجهة نظرهم، ولكي أصبح مرئياً كان عليه أن يلعب أدوارهم ويلبس أقنعتهم، وأن يكون الاخر بين الآخرين. في علاقاته الحميمية حاول دائماً أن يبني علاقة أخرى مع نفسه، كان يبحث عن نفسه في عيون صديقاته وأنتظر منهم أن يحرروني من نظرات الآخرين. يفكر هنا أنه أخذ يفعل ما يبرع فيه عادة، أي عزل نفسي عن مشكلاته التفكير فيها كما لو كانت تعني شخصاً آخر. يتساءل إن كانت هذه الاستراتيجيا تسمح له بمقاربة أكثر موضوعية لها أم تتيح لي، على العكس، التهرب من مواجهتها. آخذ بالتعرف على بعض ملامح الشارع التي تبدو له أليفة ثم أتبين لمفاجأته أنه جلس على مسافة شارعين من الحديقة الواقعة بجوار منزله. لاحظ عرقه الذي بدأ يجف وأفكر أنه على ما يبدو هرول لساعات. لا بد أنه لم يلاحظ مرور الوقت لأن ذهنه كان عالقاً عند النقطة نفسها. لكن غير معقول! كيف اهتديتُ إلى الطريق المؤدي إلى منزلي؟ لا يمكن أن يكون ذلك حصل من طريق المصادفة، لا بد أن شيئاً ما ملغزاً في لاوعيي وجهني وسيرني بينما كان يعتقد نفسه يمشي على غير هدى. شيء مماثل للبوصلة الغريزية لدىه القطط والطيور. لا يعرف، قد تكون ظاهرة معروفة وموثقة بالتجارب والنظريات. أو قد تكون المصادفة أيضاً، وإن على درجة غير معقولة من الصدفية. مطعم شاورما تركي عند الزاوية يستدعي جوعه وأنتبه أنه لم ياكل منذ الصباح. طالما اعتقد أن حاسة التذوق لديه هي أكثر رهافة منها لدى الآخرين. في الواقع، قد يكون الأكل هو الممارسة الوحيدة التي تسمح له بالتواصل مع نفسه وتمييزها عن الآخرين. في إمكانه أن يغمض عينَه ويتأمل لخمس دقائق في مذاق قطعة من الشوكولاتة كما لو كان يصغي إلى مقطوعة لباخ. طالما شعر بأن المذاق بتنوعه اللامتناهي فيه شيء سرمدي، ليس متزامناً مثل الأشكال أو متتالياً مثل الأصوات، بل هو غارق في اللحظة الذاتية. طبقة خفيفة من مذاق الشاورما تستحوذ على انتباهه وتعيده إلى الشاورما الأول الذي أكلته في السوق مع أمه وخالته. لا يتذكر وجه أمه أو خالته وقتها، ولا بالطبع وجهه، لكنه أتذكر مذاق الشاورما بدقة متناهية، كما لو كان فيه شيء لازمه. بعد خروجه من المطعم، أتوجه إلى الحديقة وأتمدد على العشب تحت الشمس الصيفية ليهضم الوجبة. أفكر أنه يجب أن يعود غداً إلى عيادة الطبيب ليطلب نصيحته. إذا كانت حالته فعلاً هي الأولى من نوعها فسيصعب عليه إقناعه بصحة ادعائه. سيكون عليهم أن يجروا فحوصاً عدة لتوثيق السابقة. من يدري، قد أصبح فأر تجارب أو نجماً تلفزيونياً.
تستدعي الفكرة زفرة ساخرة من أنفي. أستنجد بوجوه عائلته وأصدقائه ناشداً بعض الدفئ أو الثبات المطمئن، وهنا ينهار كل تماسكه الداخلي أو يذوب مرة واحدة ولا يعود في وسعه تمالك قلبه وأحشائه وقد صارت في حالة سائلة. لا يصدق! عبثاً أنبش ذاكرته طولاً وعرضاً فلا يعثر في ذهنه على ذكره واحدة عنهم، كل المواضع التي أنتظر وجودهم فيها تبدو كأنها فرغت تماماً. حتى ذكرى صديقته لم تعد في متناوله. ما زل يتذكر أحاديث تبادلتها معهم وأوقاتاً أمضيتها برفقتهم لكن وجوههم وأصواتهم محيت تماماً من ذهنه. مثلاً يذكر أموراً قالها له أبيه لكنه لا يتذكر صوته وهو يقولها. يذكر حين كانت أمه تنتظره على المقعد في الحديقة بينما يتسلق الأشجار، لكن حضورها مفترض بالكامل في ذاكرته. الأمر يتخطى الأقربين، فأنه يعجز حتى عن استحضار وجوه زملائه في العمل أو وجه الفرانة التي يشتري غالباً فطوره من عندها. يحاول إقناع نفسه لأنها مجرد نوبة هلع ستمر وبأنهم سيعودون إلى الظهور من تلقاء نفسهم ما إن آخذ مسافة من الموضوع، كما كان يحصل في طفولته حينما كان الذعر يجعله ينسى درساً حفظته غيباً ليعود ويتذكره مباشرة بعد الإمتحان. ما يجعله يركن إلى هذا الإعتقاد هو أنهم لم يختفوا تماماً، هم انسحبوا من الواجهة لكنهم ظلوا حاضرين بشكل مضمر في الخلفية. الغريب أنه يشعر بأمر ما أليف في غيابهم، كما لو كان يتعرف إلى نفسه في الحضور الشبحي واللامتعين للآخر. يحاول الكف عن بذل أي مجهود، إلا أن الهواجس لا تنفك تنبض وتنتفض في ذهنه. بينما تستكين حركته، أكتشف إلى أي حد أنا مرهق. الأفكار تصبح أكثر ثقلاً ووطأة شعورية بحيث يصعب عليه التنقل بينها. شيئاً فشيئاً، أنزلق من قبضة الإنتباه المتراخية وأغطس تحت سطح نفسه.
"هذا يكفي، سنبطلك!". قالها أخيراً بصبرٍ نافد بعدما بدا عليه جلياً الحر والإرهاق. أتأمله عن كثب. حركاته غاية في العصبية وعينه اليمنى لا تكف عن الإرتجاف. من الواضح أن لحيته أطلقت منذ أيام. العرق يسيل من تحت إبطه، وقميصه مرخي فوق بنطاله. لو رأيته في الشارع قد تظنه سكيراً أو متسكعاً لكنني أعرف أنه محقق. هناك أشخاص آخرون في الخلفية لكن تصعب رؤية ملامحهم بسبب الضوء الخافت. لا يتذكر بوضوح كيف وصلت إلى هنا، لكن المشهد لم ينبثق من العدم بل ظهر كامتداد لحالة سابقة ومكثفة وجد صعوبة في تبين ملامحها. "إذاً ؟"، يباغته بعدما انحنى ووضع وجهه بمؤازرة وجهه. أرجع رأسه إلى الوراء وأستند إلى مقبضي الكرسي متأهباً للنهوض: "لست متأكداً إن كنت أفهم هذا الإستعمال غير الاعتيادي للفعل "أبطل". "إسمع، الأمر لا يتعلق فقط بصديقتك، أنت تشكل خطراً على المدينة بأكملها!". ما إن يلفظ إسم صديقته حتى يفهم لماذا بدا له وجهه أليفاً منذ البداية وأتبين أنه الطبيب النفسي الذي التقيته في الصباح. "آه حقاً؟ هل أنت متأكد؟!"، يقول بنبرة هازئة وأنا أصطنع الدراماتيكية. "حسناً، سأشرح لك، المدينة الحديثة هي أشبه ما تكون بفضاء متجانس نحشر فيه أكبر كمية ممكنة من الأنوات، أي جمع "أنا"، وننظم السير بينها بدقة متناهية بحيث تستطيع أن تتحرك بسلاسة وتعبر في محاذاة بعضها البعض مع أقل قدر ممكن من الإحتكاك. هي الصيغة الأكثر تطوراً التي تم التوصل إليها لتنظيم العلاقة بين الأنا والآخر بحيث يتأمن لكل "أنا" أكبر قدر ممكن من الحرية، لكن ذلك لا يخلو من المخاطرة. غياب الاحتكاك بين الأنا والآخر قد يؤدي إلى تضخّمه إلى حد مرضي يجعله عاجزاً عن احترام حدوده، "أنا" كهذه، تصبح كالخلية السرطانية في جسم المدينة وتشرع في التهام الأنوات الأخرى، الأمر الذي يستوجب استئصالها قبل أن تهدد المنظومة بأكملها!" بينما يتكلم، لا يكف وجهه عن اتخاذ تعابير مسرحية. يرفع صوته بشكل هستيري عند الجملة الأخيرة "إسمع لديه خبر مؤسف لك، لست سوى شخصية وهمية من إبداع لاوعيي ولا وجود لك خارج رأسي، لا تفهمني خطأ، هذا لا يعني أنك لست مثيراً للإهتمام". يحدق في بعينين مثارتين للحظات، ثم ينفجر بالضحك وأتبعه بدوري. يلاحظ أنه يستحيل تمييز ضحكته عن ضحكتي ويعتقد أنه يضحك وحده، ثم تبدو له ضحكته غريبة عنه وأتبين أنه يضحك بصوته. يسكت فجأة ويقسو ملامحه. يغمغم من بين أسنانه: "أترى، هذا لب المشكلة، تريد أن تكرر معه ما فعلته مع صديقتك". ثم يقترب منّه شاهراً إبرة في يده، ذاماً شفتيه وفاتحاً عينيه على وسعهما مثل شخصيات هيتشكوك. أدفع به بحركة رفض غير متعيّنة أعتقد أنها خليط أو وسط بين الحركة الجسدية التي أدفع بها شخصاً عنّي والذهنية التي أطرد فيها فكرة مزعجة)، فيتلاشى مثل سراب.
فتح عينَه. وفركهما مراراً محاولاً إزالة بقايا العمش والنعاس، لكن عبثاً، كل شيء يبقى مغبشاً، متداخلاً وباهتاً من حوله. أمدّ يديه محاولاً تحسس الحائط، إلا أنه ولمفاجأتي ينهار تحت لمسته كما لو يكون أمتن من رغوة الصابون. هنا أكتشف أن الأشياء لم تعد لها أي كثافة مادية وصارت كالأطياف بالنسبة إليه. أنفض عنه الركام الشبحي لأجد نفسي في الشارع. الأطياف تتراكض هلعة من أمامه. صرخاتها الهستيرية تبدو له أشبه بمرمرة الأشباح. يحاول أن يكلمهم إلا أن الهواء الذي يخرج من فمه يحدث فيهم مفعول قنبلة صوتية. سيارات شرطة ودبابات وعساكر في حالة طيفية تأخذ بالتجمع حولي. يذكره ذلك بألعاب الفيديو الحربية حين تكون الشاشة على درجة عالية من التشويش. يفتح الجميع نيرانهم في اتجاهي دفعة واحدة، فتبدو له أشبه بأضواء بيضاء. تحجب النيران الرؤية عني تماماً، تغدو الحرارة خانقة وآخذ بالتصبب عرقاً. هنا أندفع مطيحاً كل شي فأغطس في الفراغ.
أول ما تقع عيناه عليه هو سماء زرقاء صافية. يأخذ الأمر منه بضع لحظات حتى أعتاد الأرض اليابسة لليقظة. أتبين أنه غفي في العراء. في البداية أعتقد أنه المساء، لكن حين أرفع ظهري وألاحظ الهدوء الطازج والمتنزهين المتقاعدين، أستنتج أنه الفجر. أنهض وأسارع الخطى في اتجاه البيت. بينما يمشي، يتنفس عميقاً ويصغي إلى الأشياء. أفكار عشوائية وخفيفة تلفح رأسه مثل الهواء المنعش. يتوقف لشراء فنجان قهوة من الكشك الراكن عند قارعة الطريق. يتحدث قليلاً مع البائعة والزبائن الآخرين حول صباحيات الطقس والرياضة. لا يعرف لماذا؟ لكنه شعر أن هناك شيئاً ما مختلفاً في شأنهم، شيئاً يجعل حضورهم أكثر إلفة وأقل وطأة. فجأةً، أحس بأن الأرض ستنهار من تحت قدميه. غشاوة تسقط من عينه وأكتشف مذعوراً أن الوجوه اختفت. لم تختف بحيث تترك مكانها صفحة بيضاء لكنها مفككة ومتداخلة إلى حد يجعل من المتعذر تبين أي من ملامحها على شاكلة بعض اللوحات التكعيبية المفرطة في التجريد. مع بعض التركيز، في إمكاني أن أتبين حدقة العين أو طرف الفم، لكنه عاجز عن رؤية الوجه ككل. يا إلهي، كان الطبيب النفسي محقاً، الأمر لا يتعلق فقط بصديقتي. هو العالم نفسه ينسحب من أمامه كما تنحسر الأمواج عن شاطئ البحر. لا عجب أنه كان يشعر بالانشراح منذ استيقاظه، فأنه طالما عاني مع الوجوه. على عكس لسانه، طالما كان وجهه ثقيلاً يجهد لاهثاً ومتعثراً للحاق بوجوه الآخرين، وأمام الوجوه المنطلقة كان ينكمش على نفسه بالعاً ماءه. لا يعرف، ربما يعود ذلك إلى عقلانيتي الزائدة، فأنه شعر دائماً أن العلاقة البدائية والما قبل تاريخية بالآخر لا تزال حاضرة بشكل مضمر في الوجوه. مثلاً، هذه حقيقة يدركها كل الخجلون بحساسيتهم المرهفة: العيون كانيبالية. بينما يحاول عبثاً لم شتات الوجوه، يذكر طفولته حين كان أسرد لنصف ساعة محملقاً في المرآة في انتظار أن يتعب انتباهه و"ينفلش" وجهه إلى مكوناته التكعيبية في لحظة بالألفة، فأنا لم أتقن يوماً لغة الوجوه. حين رأيت نفسي بكاميرا الفيديو للمرةكان يظنها تجاوزية. في الواقع، طالما اعتقد أن الجزء الأكبر من الوجه لا يقيم فيه بل هو مجرد تفسير أو تأويل، أي إضافة تلقائية من جانبنا. قد تقوم التكعيبية في جزء كبير منها على تجريد الوجه من هذه الإضافة، أي على محاولة تصويره أو النظر إليه بالعين التي ننظر بها إلى قطعة من الخردة. ربما لهذا تشعرني اللوحات التكعيبية الأولى، صدمتُ بحجم التفاوت بين حضوري كآخر وصورتي عن نفسي، وفهمت إلى أي حد شكل وجهه منذ البداية سوء فهم أصلياً بيني وبين العالم. بطريقة ما، كان سعدان نفسه طوال الوقت. الغريب أنه على عكس وجوه الآخرين، لم يكن وجهه يوماً على هذا القدر من الحضور. هو يحل في الأشياء كما لو أنه ليس هناك أي مسافة بينه وبينها، كما لو كان استعاد براءته الأولى السابقة على اكتشاف المرآة. يشعر به خفيفاً وحراً بعدما سقطت عنه كل طبقات الوجوه التي تراكمت عليه وشكلته مع الوقت، وجه أبيه، وجه أمه، وجوه التلفاز، وجوه الشارع، وجه الآخر في المرآة. كل تلك الوجوه التي لم تعرف كيف تتصالح في ما بينها لتشكل وجهاً متناسقاً. يستحوذ على انتباهه يقين جسمه يتملكه بكليته ويجعله يشعر كما لو كان العالم بأكمله صار امتداداً جسمياً له، كما لو كان كل شيء صار في مقدوري ومتناولي أو كان في استطاعته أن يفعل أو يغير أي شيء. هذا اليقين لا ينفك ينمو باطراد محفزاً إياي على استكشاف الأفق الجديد الذي ينفتح أمامه. يحاول أخذ مسافة من الوضع، لكن تبدو له الكلمات والأفكار باهتة أمام اليقين الجسمي الذي استولى على كل عالمه الداخلي ولم يترك فيه أي فسحة حرة تتسع لهوائية التصورات. في الواقع، لم يعد هناك أي فرق الآن بين عالمه الداخلي والخارجي أو بين الواقع المادي ومخيلته. لا يعود في وسعه كبح اندفاعي الحركي المتصاعد الذي يفيض خارج حدوده الجسمية السابقة. آخذ بالتلاعب بالأشكال والألوان ومعطياتي الحسية كافةً، مقلبا إياها في كل الإتجاهات والإمكانات المتاحة. يشعر بأن إرادته تسبقه. بلمح البصر يمر أمام عيني عدد لا متناه من الأوضاع والحالات التي ما كان ليقدر في السابق على تخيلها. تتسارع وتيرة الحركة وتزداد زخما إلى أن لا يعود هناك أي مسافة لدي بين الخاطر والإرادة والفعل والواقع. ذلك كله يغدو أشبه بدفق أعمى، بشلال يتدفق داخل نفسه. هنا أشعر كما لو كان الزمن انطوى على ذاته وصار كل ما يمكن أن يحصل متزامناً وحاضراً في لحظة واحدة ممتلئة ولا متناهية الكثافة والتنوع. أكتشف عندها أن الوجود كله لم يعد أقل هوائية من مخيلته. يحاول عبثاً استرجاع جسمه والفضاء من حوله إلا أنه أعجز عن تثبيت التصورات ولو للحظة واحدة، هي لا تنفك تنزلق وتتلاشى كالتراب من بين أصابعه. يذكره ذلك بالمجهود الذي كان أحياناً أقوم به مغمض العينين بعد استيقاظي لاستئناف الحلم، مع فارق أن عالم اليقظة هو الذي يفلت منه هذه المرة. أنتبه أن البداهة الغريزية للغة تبخرت بلمح البصر. الكلمات لا تفتأ تستدعي وتستأنف بعضها في رأسي، إلا أنها لم تعد كلماته. تبدو له أشبه بنص أجنبه أسمعه بعدما حفظته ببغائياً من دون أن يفهمه. رغماً عن صيغة المتكلم، لم تعد كلمة "أنا" تعني له شيئاً أكثر من حرف الجر أو نقيق الضفادع. شيئاً فشيئاً، تتداخل حدود الأحرف والأصوات وتنصهر في شواش سمعي خالص هو الصمت نفسه في معناه الأكثر أصالة.